30 Jun
30Jun

على الرغم من أنّ خبراء أوضحوا أنّ آثار حادثة تسرّب غاز الكلورين في العقبة أتت محصورة بلحظتها، فإنّ الأردنيين يرون فيها دليلاً إضافياً على سوء إدارة وإهمال.

لم يستفق الأردنيون بعد من وقع حادثة تسرّب الغاز الناجمة عن سقوط صهريج محمّل بمادة شديدة السميّة في أثناء نقله في نطاق ميناء العقبة جنوبي الأردن، أوّل من أمس الإثنين، والذي أدّى إلى وفاة 13 شخصاً (9 عمال أردنيين و4 عمال أجانب من الجنسيتين الصينية والفيتنامية من طاقم السفينة) وإصابة 260 آخرين. ويُحكى عن سوء إدارة وإهمال في البلاد، فيما تُسترجَع حوادث أليمة حصدت كذلك أرواح أردنيين في السنوات الأخيرة، من بينها فاجعة مستشفى السلط الحكومي في وسط البلاد التي نتجت عنها 10 وفيات من جرّاء نفاد مخزون الأوكسيجين في 13 مارس/ آذار2021، وكذلك فاجعة البحر الميت في الغرب عندما داهمت أمطار غزيرة المنطقة في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2018 وأودت بحياة 22 شخصاً فيما أُصيب 43 آخرون.

وقد أعلنت الحكومة الأردنية، عقب الحادثة، تشكيل فريق برئاسة وزير الداخلية مازن الفراية يضمّ أهل مختلف الاختصاصات ذات الصلة، للوقوف على ما جرى بدقّة وإجراء التحقيقات اللازمة لاتّخاذ الإجراءات اللازمة، بحسب ما جاء في تصريحات صحافية للمتحدث باسم الحكومة فيصل الشبول.

وفي تفاصيل الحادثة، سقط صهريج محمّل بمادة غاز الكلورين شديدة السميّة في أثناء وضعه على متن باخرة، الأمر الذي أدّى إلى تسرّب الغاز منه، علماً أنّ تلك الشحنة كانت معدّة للتصدير. وبحسب ما صرّح مدير شركة العقبة لإدارة وتشغيل الموانىء خالد المعايطة، فقد انقطع حبل مناولة الحاوية رقم 6 البالغ حجمها 20 قدماً والتي تحمل 20 طناً من غاز الكلورين. وأشار المعايطة إلى أنّ طاقم الباخرة المسجّلة في هونغ كونغ مؤلّف من أفراد من الجنسيّتَين الفيتنامية والصينية، وكان من المزمع أن تتوجّه تلك الباخرة إلى جيبوتي.

من جهته، أفاد رئيس الوزراء الأردني  بشر الخصاونة، أمس الثلاثاء، في أثناء جولة تفقدية رافقه فيها وزيرا الداخلية مازن الفراية والصحة فراس الهواري ومسؤولون من سلطة إقليم العقبة، بأنّ الحياة عادت إلى طبيعتها في محافظة العقبة واستؤنفت حركة الموانئ والملاحة بشكل كامل بعد حادثة تسرّب الغاز، مؤكداً أنّ الوضع بات تحت السيطرة. أضاف الخصاونة في تصريحات صحافية: "كلّفت وزير الداخلية ليرأس فريقاً للتحقيق يضمّ كلّ جهات الاختصاص؛ للوقوف على ما جرى بدقّة في هذا الحادث المؤسف، وضمان توفير أقصى درجات السلامة العامة للعاملين في الموانئ وتكريس إجراءات السلامة في التعامل مع المواد الخطرة". وتابع الخصاونة أنّ تقديرات الجهات المختصة تشير إلى أنّ خللاً قد حدث في إحدى الرافعات التي كانت تحمّل البضائع على إحدى البواخر المغادرة ميناء العقبة، وهو ما أدّى إلى سقوط الخزان الذي يحتوي على مادة الكلورين.

في الإطار نفسه، قال ممثل قطاع الصناعات الكيميائية في غرفة صناعة الأردن المهندس أحمد البس لـ"العربي الجديد" إنّ "مادة غاز الكلورين التي تسربّت في ميناء العقبة تُستخدم عادة في تنظيف المياه بالإضافة إلى استخدامات أخرى في كلّ دول العالم"، موضحاً أنّ "خطرها كان في مدى تركّزها". وشرح أنّ "بعد حادثة مشابهة بساعة، لا يعود لهذه المادة أيّ أثر قاتل، وبعد ثلاث ساعات لا تعود مؤذية، وبعد 12 ساعة يكون الغاز قد تبخّر ولا يبقى له أيّ تأثير في الجو". وهذا ما حدث في العقبة، بحسب ما أكد البس الذي قال إنّ "آثار (هذا الغاز) اختفت وقد انتشر في الجو، فيما لا رواسب ولا بقايا سميّة له". وأوضح البس أنّه "عندما وقع التسرّب، كان الغاز قاتلاً في المناطق القريبة. لكنّه في الحيّز الأكبر، كان مضراً فقط وتسبّب في إصابات"، لافتاً إلى أنّ "المصابين بمعظمهم خرجوا من المستشفيات، علماً أنّ الذين بقوا فيها لتلقّي العلاج هم أشخاص يعانون من الحساسية والأمراض التنفسية".

وأكمل البس أنّ "غاز الكلورين يُستخدم بشكل كبير في برك السباحة وكذلك في تعقيم مياه الشرب، وكذلك في صناعات كيميائية وبتروكيميائية وعضوية. بالتالي تأتي استخداماته في الغالب لغايات صحية في أبراج التبريد والتسخين في البنى الصناعية، يُضاف إلى ذلك استخدامه في مواد التنظيف المنزلية بدرجات تركيز مختلف وأخف". وأشار البس إلى أنّ "الغاز كان مسيّلاً ومضغوطاً وتحوّل من الوضع السائل إلى غاز نتيجة انقطاع حبل الرافعة وسقوط الصهريج، فاستنشقه الذين كانوا في محيط الرافعة، الأمر الذي أدّى إلى تسجيل وفيات وإصابات".

وفي سياق متصل، قال مستشار الطب الشرعي والخبير لدى الأمم المتحدة في مواجهة العنف هاني جهشان لـ"العربي الجديد" إنّ "هذا الاهمال لا يحتاج إلى لجنة تحقيق أو فريق تحقيق إداري، بل يتطلّب إحالة الملف فوراً إلى النائب العام وملاحقة الوزراء والمفوّضين والمديرين المسؤولين عن التسبّب بالفاجعة جزائياً قبل اختيار كبش فداء". أضاف جهشان أنّ "الكوارث المماثلة لا تُصنَّف كقضاء وقدر لأنّ حدوثها مستغرب في الميناء الوحيد بالأردن حيث الوقاية أمر بديهي من خلال تطبيق معايير السلامة والأمن. وهذا العدد الهائل من الوفيات والإصابات بالتسمم أمر شنيع، وحدوثه مرتبط بلامبالاة المسؤولين وإهمالهم، سواءً أكانوا من الوزراء أو المفوضين أو المديرين".

ورأى جهشان أنّه "من السذاجة أن يصرّح مفوض سابق في العقبة بأنّ الحوادث المماثلة تحدث في كلّ موانئ العالم، وكأنّه أمر عادي، وقد أضاف أنّ كيبل الكرين (حبل معدني للرافعة) الذي أدّى إلى الكارثة قد يكون انقطع بسبب اتّجاه الرياح وشدّتها"، مشدّداً على أنّ "هذا أمر يدلّ على استعلاء وعدم احترام عقول الناس".

أمّا عضو مجلس نقابة المهندسين رئيس الشعبة الكيميائية المهندس محمد المحاميد فرأى أنّ "تحميل المسؤولية في الحوادث الصناعية يحتاج إلى تشكيل فريق مختص في الحوادث الصناعية"، مضيفاً لـ"العربي الجديد" أنّ "الحوادث المماثلة تحتاج إلى تشكيل لجنة من المختصين والفنيين لتحديد المسؤولية". ويتابع المحاميد أنّه "بحسب المشاهدات والمتابعات الأولية لحادثة سقوط وتحطم خزان مواد كيميائية (في العقبة) يظهر غياب تدابير سلامة العمليات الكيميائية في نقل المواد السامة، وهو الأمر الذي أدّى إلى وقوع وفيات وإصابة مئات من جرّاء تسرّب غاز الكلورين".

ولفت المحاميد إلى أنّ "نقابة المهندسين تتابع عن كثب مجريات التحقيق الذي تقوم به الجهات المعنية، وسوف تعمل على تقديم المشورة الفنية اللازمة من خلال لجنة مختصة سوف تشكّلها لإعداد تقرير عن الحادثة"، موضحاً أنّ "الحادثة كشفت عن حقيقة غياب وتجاهل أهمية التدابير الوقائية في العمليات الكيميائية في أثناء نقل المواد الخطرة. فالتسجيلات المصوّرة تشير إلى أنّ رافعة الخزان لم تكن مناسبة للحمل، أو عملية ربط الحمّالات لم تكن مقدّرة هندسياً ولم تراعِ حساسية المادة المنقولة".

وأشار المحاميد إلى أنّ "الحادثة كشفت كذلك أهمية مراعاة السلامة للعمليات الكيميائية والصناعية في مختلف مراحل التصنيع والتوريد، إذ إنّ خللاً في دعامات حمل الخزّان تسبّب في سقوطه مباشرة وتحطّمه وتعريض عشرات العاملين في الميناء لخطر غاز الكلورين الحارق، بسبب غياب الاهتمام بالتفاصيل".

وشدّد المحاميد على وجوب أن تكون هذه الحادثة "درساً لكلّ العاملين في قطاع صناعة الكيميائيات، لا سيّما أنّ مستوى الخطورة في هذه العمليات مرتفع ويتطلب دقّة وخبرة عاليتَين لتجنّب المساس بالصحة المهنية للعاملين في مختلف المواقع". وإذ أفاد أنّ "هذه الحادثة هي الأولى من نوعها، لجهة عملية تسرّب غاز في خلال النقل والتحميل على البواخر"، أكّد أنّ "تسرّبات وقعت سابقاً من خزّانات أرضية".

وفي توصيفه للحادثة، قال المحاميد: "على الرغم من الألم بسبب الوفيات والإصابات، إلا أنّ ما حصل لا يُصنَّف كارثة كتلك التي حدثت في ميناء بيروت مثلاً"، وشرح أنّ "الحوادث في هذا القطاع متوقعة لكنّه من الضروري ألا تغيب عوامل السلامة". وأكمل المحاميد أنّ "الاستجابة كانت سريعة من قبل الأجهزة المعنية، علماً أنّ غاز الكلورين انتشر في فضاء عام مفتوح وهو ما جعل التعامل معه أكثر صعوبة"، مشدّداً على أنّه "لولا الاستجابة السريعة لكانت الإصابات أكبر بكثير".


بالنسبة إلى رئيس مركز بيت العمال المحامي حمادة أبو نجمة، فإنّ "الجهة المسؤولة عن مراقبة الالتزام بالسلامة والصحة المهنية هي وزارة العمل. وثمّة فصل خاص في القانون يتعلق بالسلامة والصحة المهنيّتَين، إلى جانب عشرات الأنظمة، لكنّ المشكلة الخاصة بالرقابة قائمة وكذلك متابعة الالتزام بشروط السلامة". وشرح لـ"العربي الجديد" أنّ "السبب الرئيسي لضعف رقابة وزارة العمل هو النقص الواضح في الكوادر البشرية المتخصصة في مراقبة مدى الالتزام بشروط السلامة والصحة المهنية في مواقع العمل. فمنشآت عديدة تبقى في خارج نطاق عمليات التفتيش التي تتولاها الوزارة لهذه الغاية ولا تحظى بالمساعدة الفنية الكافية".

وأشار أبو نجمة إلى أنّ عدد "مفتشي العمل في مجال السلامة والصحة المهنية محدود جداً، ويتراوح ما بين 10 و15 مفتشاً، علماً أنّ ثمّة 200 مفتش تقريباً في الوزارة عموماً. لكنّ جهد معظمهم يذهب في اتجاه ملاحقة العمالة الوافدة، وبالتالي فإنّ قضايا كثيرة لا تحظى إلا باهتمام قليل مثل السلامة المهنية والأجور. وهذا أمر يتطلب دعم وزارة العمل بكوادر متخصصة ومؤهلة وبأعداد كافية، واعتماد الوسائل الحديثة للتفتيش وحوسبة أعمالها وتفعيل وسائل التفتيش عن بعد وبأقلّ عدد من الزيارات الميدانية".

وعلى الصعيد التشريعي، قال أبو نجمة: "على الرغم من أنّ قانون العمل قد خصّص فصلاً خاصاً لموضوع السلامة والصحة المهنيتَين، فإنّ التشريع الأردني ما زال في حاجة إلى نصوص أكثر شمولية وتفصيلاً من النواحي الفنية تتضمّن توجيهات متخصصة للوقاية من الأخطار على مستوى كلّ قطاع". وأوضح أبو نجمة أنّه "يفترض أن يكون المتضررون مشمولين بالضمان الاجتماعي، وإن كان عامل ما غير مشمول فيُعَدّ عدم شموله مخالفة من قبل الجهة التي تستخدمه، وفي هذه الحالة تعمل مؤسسة الضمان الاجتماعي على شمل العامل بأثر رجعي ابتداءً من تاريخ بدء عمله الفعلي وتغريم صاحب العمل عن تلك المدة بالإضافة إلى تكليفه بدفع كلّ الاشتراكات المتأخرة. وبناء على ذلك، يستحقّ ورثة العامل المتوفي تعويض الوفاة، ويستحق العامل المصاب تكاليف العلاج وتعويض العجز وفق القواعد التي ينصّ عليها القانون". يُذكر أنّ البيانات الصادرة عن المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي تفيد بوقوع ما معدّله 14 ألف حادثة عمل سنوياً في الأردن تتسبّب في نحو 200 وفاة، بمعدّل إصابة عمل كلّ 37 دقيقة ووفاة واحدة كلّ يومَين.

بعد الحادثة الأخيرة المسجّلة في ميناء العقبة، أكّد المدير العام للشركة العامة الأردنية للصوامع والتموين عماد الطراونة سلامة مخزونات الحبوب في العقبة، موضحاً أنّ الصوامع مصمّمة لمقاومة كلّ الظروف الخارجية من أشعة شمس أو أيّ ظروف بيئية أو تسرّب غاز، وهي محكمة الإغلاق في خلال عمليات التفريغ والتعبئة.


تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.